(تأملات عيسى)
قصة قصيرة بقلم : رحيم حمد علي
مدينتي العمارة تنبض بالحياة المرحة ، طبيعتها شديدة الزهو ، تتفتح بنزق ، تستعرض مفاتنها ، تعطي مذاقاً جميلاً ، النخيل ذات مراوح السعف بأنصالها الخضراء الذي تمتد صفوفه على مدى البصر تحت ذهب السماء ، يشعر بالغفو الجميل ، أشجار الكالبتوس ، الحشائش ، فيضان دجلة ، الربيع ، كلها تجعل المرء يرغب بأشياءه ، دون ان يتحول الى كائن لا يدرك ما يفكر به كيفما يشاء .
كنت اتمنى بقدر ما أخشى ، ان اقابل او التقي بمن أشتاق اليه ، هكذا أشعرتني الحاسة السادسة ، او ربما خطر ببالي ذلك ، بينما انا كذلك ، سمعت صوت انزلاق عجلات على الشارع الاسفلتي ، المحاذي للنهر وهو في ذروة طغيانه ، مياهه لا عاصم لها ، حادة قوية ، تجرف امامها كل شيء ، حيث أسير على رصيفه ، صار هذا الطقس من طقوسي اليومية التي اجرب معها معايير سلمية ، رغم ملاحظاتي التمهيدية التي ابرمها معه بانتظام ، دون انقطاع ، مما عودني ايضاً ، ان أحب الاشياء التي أراها في تجوالي .
نصف استدارة قمت بها لأرى على وجه الدقة ، تشوش صفو دخيلتي ، أضاء وجهي عندما رأيته ، التزمت الصمت للمفاجأة ، ثمة أمور اخرى لا بد ان تؤخذ بنظر الاعتبار ، صحت به "عيسى" ، ترجل متوجهاً نحوي ، لا يعي شيئاً ، تعانقنا بحرارة ، كأننا عاشقيين ، واضعاً وجهي على وجهه ، بقيت كذلك حتى كوتني ملوحة دموعه ، شعرت بموجه من الحنين تشدني اليه ، كان من أشد الاشياء علي ان افرح به ، إستولت علي سيماء فرح عميق ، صار الجو مفعم بكل الاشياء ، شيء غريب طغى على مشاعري ، أبهج سريرتي ، قلبي أشار علي ان أتكلم ، قلت :
- من المسلم به ، المرء ينسى الوجه الذي لا يراه ، مهما كان يحبه ، الا انه كان لزاماً علي ان لا انسى وجهك أبداً ، لم يكن بوسعي وأهلك وأصدقائك ان نعيش بدونك ، أفضل ما فعلت هو عودتك ، الان تهللت أسارير وجهي ، امتلأ كياني غبطة وسروراً ، قبل شفتي ، زال حزني ، لا أصدق عيني انت هنا ، لقد انتظرناك طويلاً وأسى الامور هو الانتظار ، حتى فقدت القدرة على التفكير بخصوصياتي ، انت معي اينما أكون ... أيتها الشمس ليكن نهارك جميلاً أبداً لا يتكون بعده ليل ، لأن نمطيه الليل يكبت إحساسي المرهف . قال :
نعم ، أنا هو ، ومعي عذابات الغربة وجراحات الزمن ، هل من شك يخامرك ؟
- هدية الطبيعة ان تعود الينا بعد هذه الغيبة الطويلة لأراك كما أنت ، الان كل شيء رائع ، المدينة ، الحياة ، الحب ، كل شيء ... كل شيء ، الحياة يا أخي مسلكها مؤلم حقاً ، لكن علينا ان نأخذه مأخذاً حسناً ، اعترافاً منا بجميل ما صنعته وما تصنعه معنا هذه الحياة ، تألقت لوجودك الذي هو من أشد الاشياء على نفسي ، لأني معك فقط أكون حر التفكير ولكن !!! . قاطعني بشرود ذهن ، قال برصانه :
لكن ماذا ؟
قبل ان أجيبه ، راودتني فكرة ، ان المرء احياناً يسرد أشياء لا يفهمها ، ويحفظ قواعد لا يؤمن بها ، وعليه ان لايحزم أمره في الكلام ، الا ان تكون لديه قاعده يأخذ بعضها برقايق البعض كما هو الحال في علم الرياضيات .
قلت :
- خوفي عليك من الوضع الراهن ، الامور تغيرت ، واتخذت أزائنا موقفاً عبثياً بفعل قوة الاشياء ، فوضى اجتماعية تجاوزت المعايير والحدود للذين لا تهمهم عدالة تصرفهم . قال :
حتى ولو !! ان ثمة اسباباً مناسبة للاعتقاد ، بمثل ما تقول ، لا تفكر ، أترك ذلك للقدر ، هو الكفيل بحل الامور العالقة ، هكذا هو الانسان عقله يستنتج الامور وعندما يرفض قلبه النتيجة ، يتمرد جسده ضد الاخرين ، دون الاخذ بما من شأنه ان يشجع على التفكير الحر والعمل الشخصي ، جاعلاً خياله في تناقض مع عقله لادراك الحقيقة ، وهذا تصرف لا مسوغ له . قلت :
- سبل الاتصال بيننا انقطعت ، عسى ان يكون المانع خيراً !!
تعرضت الى ضائقة مالية ، لعدم وجود فرصة عمل ، صرت اتنقل من بلد الى آخر بحثاً عن تلك الفرصة ، لم تكن بي الرغبة لأشعرك بذلك ، الا تحزن حتى استقر وضعي ، بمشيئة الصدفة ، لذا قررت ان اعود ، واول ما فكرت به أنت .
- كلمة فهمك معتمدة ، برؤيتك تهللت أسارير وجهي ، كما يتهلل النهار ، الان صرت في مواجهة مع وجودي كأنسان ، وهذا ما يؤكد لدي ثمة إحساس أكثر مما أحسه بعد اليوم .
لا تحمل لي أمر يهم قلبي ، أنا سعيد برؤيتك ، أكبر فيك روح الاخوة والصداقة ، أنت من أشم شذى انفاسك حين قهري .
ساور معي ، سرنا سوية في طرقات مدينتنا العطشى لأشياءها ، جلسنا في بقعة خضراء محصورة بين صف النخيل وضفة دجلة .
تناول عيسى حفنة من التراب ، تأملها ، استنشق عبيرها ، وجه كلامه للتراب الذي بين يديه " ترابك يا وطن أثمن من الماس ، هو موجه طوفان عاتية ، مقامك مرفوع الى حيث مطلع الشمس ، أنت العراق ساعة ولادتك حيثما تكون " .
تداخلت رائحة الحشيش مع ذكرياتي ، نظرت الى صفحة الماء ، وقوارب الصيد ، عدت حين تصير أيامي موغلة بالقدم ، راودتني ذكريات الماضي ، لكن من المستحيل ان أقرر بأي درجة من اليقين من ان تعود الامور على ما كانت عليه ، او كما اريدها ان تكون ، ايماناً مني بأن هذا شأن ذو قيمة احتفظ به لنفسي ما دمت حياً ، تذكرت الماضي وهذا النهر ، والزوارق النهرية التي منها زورق والدي والعم روضان ذات المقدمة التي تشبه تنين افعواني ذو سبعة رؤوس ، وكيف تتم مقايضة السكر والشاي والسلع الاخرى بانواع الحبوب التي يتم بيعها على التجار لنقلها الى مكان شحنها ، هكذا دارت الايام جاعلة الحياة آخذة بالزوال كصنبور يقطر الماء قطرة قطرة .
تداخلت افكاري جميعها ضمن شريط الماضي ، أيقنت من خلالها ان المصادفة ربما تكون أكثر من الفعل ، وان الالهام لا يعطي انذاراً مسبقاً ، كلها تتألف مثل وميض البرق ، وكأنه يبعث الفزع ، عندئذ توجهت الى الرب الرحيم ، الذي وسعت رحمته ، ان يهب الحياة لوطني ، فحبه عندي أكثر من العدالة والحرية ، وهذا يكشف دون شك إبطال أية محاججة برمتها مني ومن أي مخلوقات الارض فيه ، على مصداقية هذا الحب ، وشوقي الكبير يبرر ذلك ، بل يجعله ضروري جداً ، خدرني الخوف عليه من المستقبل ، هطل حذري حتى ساد صمتي ، فأطلقت العنان لعذاباتي من ذلك الخوف .
عندما استعرض وجهة النظر هذه ، لا اريد ان افلق الامر الواقع ، انما ارفعه الى مستوى من التعليل الاطلاقي لكي يتم ادراك معنى القصدية الذي يختفي وراءها تصيير هذا الواقع من ان يشهد لصحة المفهوم السائد ، بينما المألوف ان المفهوم هو الذي يشهد على صحة الواقع الذي بدوره يعتبر ان المصلحة قياس ومحرك لكل شيء وهذا ما يستهويني فعلاً من أن أجد وطني الحبيب في مصاف الكمال التاريخي ، ليجسد هذا الاختيار امام الانسانية جمعاء .
كل ما شعرت به هو انسياب خيطين رقيقين من الدموع انحدرا ببطء حتى ولجا فتحتي أنفي ، فجأة ، نعم ، بكيت ، نظرت من خلال الدمع للنهر الخالد ، وجدته يمتد على مساحات شاسعة من المياه ، على شاطئيه ظلال لهياكل متراقصة حركها نسيم المساء ، كانت طيور النورس تبدو مثل هالات بيضاء اسطوانية في فضاء شاحب ، واخرى تحلق في الاعالي ، كانت الشمس قد انحدرت للغروب ، سقطت على الدنيا المنيرة بضوء الغسق ، انتعاشه لاذعة جميلة ، هبت ريح خلال اشجار النخيل التي تحيطنا بعتمتها الرطبة ، جعلت السعفات العارية تصطفق واليابسة تهتز بحفيف مسموع .
تأملني عيسى ، وقد اخرج من جيبه علبة سكائر ، سحب منها سكاراً ، وضعه في فمه وهو يراقبني بلهفة وقال :
لماذا تبكي ؟
- صرت سهل الدمع ، أي احساس له علاقة بالحنين والوطن والماضي ، يسبب لي عقدة في كياني ، فأجهش بالبكاء ، يا عيسى ارتعش هياماً بحب الوطن ، انجرف أمامي سيل من الذكريات ، طفولتي ، أهلي ...
نفث الدخان من انفه وفمه بعد ان سحب نفساً طويلاً من سيكارته وقال برصانه :
يمكنك ان تفرح ، ها نحن التقينا !!!
- لقائك يا عيسى ، افرح به أكثر من النشوة ، وأعثر معك على نفسي ، وعندما يعثر المرء على نفسه مع من يحب ، يتحول الى طفل ، انا الان امامك طفل ، والا كيف تفسر انحدار هذه الدموع ، فرحتي بك لا توصف ، هي نعمة من نعم السماء لكن يا أخي ، الحياة ليست الا صور ممزقة ، حلم حزين ، صمتاً سرمدياً يقلص دائرة الحرية لحساب دائرة الضرورة .
أراك حزيناً ، تأمل الحياة بأمعان ، لتتعلم منها أكثر ، لا تكن كالضائع في صحراء لا نهاية لها ، تنغرس الالام في ذاتك ، طالما انك مؤمن بحب وطنك وناسك ، وتتفهم كل المعاني بما فيها الحزن والفرح .. قلت :
- لن نتوهم الاحزان ، او الاستسلام لها ، لكن هناك امور مبعثها الحزن ، الذي لا يدخل الغبطة الى قلب أي منا ، والا كيف تفسر ما يحصل الان ، ثم لا تنسى ان الحزن الاكثر عمقاً هو الحزن الداخلي ، الذي يستمر طالما يشعر الناس بعدم وجود حرية حقيقة ، وان الاحساس بالرعب يشتد عمدما يعيش المرء تحت أمر يكرهه ، او اقوى منه ، فتختلط لديه الكراهية مع الخوف ..
نستطيع ان نؤمن الحرية لانفسنا ، عندما نقحول الحقيقة !! الا ان هذا يحتاج الى شجاعة ، الغاء الخوف من انفسنا ، وان نكون دعاة لثورة اجتماعية وسياسية من دون ان تستغل عقيدة الامة لصالح من ينخدع بهم الاخرين ، ومشروع تغيير لأي منعطف تأريخي ، عندئذ نشعر بالحرية الحقيقية !!
نهضت من مكاني ، جلست على ضفة دجلة ، سانداً ظهري الى شجرة "السدر" ، لا مست الماء ، شعرت بقطراته البلورية الصغيرة ، وهي تنزلق من بين اصابعي ، ضربت بيدي على وجه الماء ، أحدثت صوتاً مكتوماً ، قلت :
- فاكارك تظهر في ثوب قشيب ، تريد منها ان تطوع ذهني تطويعاً ، هل تعتقد ان قول الحقيقة يغير من واقع الاشياء ، يعلنون ملء افواههم من المآذن والكنائس ، القتل حرام ، سلب ارادة الناس كفر ، التمثيل بأجساد الابرياء ظلم ، ألم تكن هذه كلها أقوال حقيقية ، هل غيرت من الواقع شيء ؟
حسناً ، يمكنك ، قال ، الا اني قاطعته ، بمتابعة حديثي معه قائلاً بانفعال :
- لماذا تحملت انت هذه الغربة كلها ، ألم تصرخ بأعلى صوتك قبل ان تغادر الوطن ، انك لا تريدها ، وان التراب الذي جبلت فيه اغلى من كنوز الدنيا ، حرير نفترشه ونلتحف السماء ، الا هذه كلها حقائق ، ماذا كانت النتيجة ؟
قال بهدوء ، محاولاً امتصاص غضبي :
لما كان من الظاهر اني اصرح لك بكل شيء ، ينبغي اذن ان اخبرك بثقة مطلقة ، اننا نعمل الاشياء بقناعتنا ، رغم قسوتها علينا ؟
- لا نتشاجر على الكلمة ، شرعت في الجواب ، وأنا أحاول ان اكون رصيناً ، ولا تقل قناعة ، بل عجز عن مواجهة الواقع المرير المفروض ، ونتيجة الشعور بهذا العجز ، لا نتمكن من تغييره !! ، قال :
التطابق في الاراء ، لا يعني بالضرورة التطابق في الانسجام لأمر ما ، لأن ما بيننا وبين ما يفرض علينا من واقع ، من الضخامة والضآلة ، وغالباً ما تتلاشى المماثلات لمثل هذه الامور ، فلو شاركتك الرأي ، ولنفرض اننا متفقين الان ، الا تعتقد ان يأتي يوم ، يمكن ان تقال فيه الحقيقة ، دون ان تمس حقوقنا ، وبالتالي نؤمن حريتنا ونتخلص من حزن النفس ؟
صمت برهة ، شعرت ان قلبه ، لا يسبر غوره انسان ، رغم قسوة الايام عليه ، وردتني فكرة سعيدة ، على ان ارمي بكلمة فمي اليه لأقول له ما اريد ، قبل ان ترد اوامر شفتي او تتبدل قناعتي برأيي ، الا انه مضى قدماً وقال :
اوامرك نافذة ، وكلمة فمك هي المعتمدة ، اقسم لك على ان اقول الحقيقة ، قاطعته قائلاً:
- لا أعتقد ذلك ما دام هناك جهل في المجتمع ، وتسلط عليه ، وظلم جائر على البعض ، لاسيما الطبقة المثقفة التي وحدها تقول الحقيقة ، يكذبنا القائم على حد السيف ، لأن فينا ذات ، تارة تكون مشحونة كبركان ثائر ، واخرى باردة كقطعة الثلج . قال :
ليست هكذا كما تقول ، ان من نعم السماء علينا ، ان تكون وراء الالام الا الافراح ، ووراء اليأس الا النجاح ، لا تنظر للحياة نظرة تشاؤمية ، معتبراً ما موجود الان مشكلة لا تنتهي ، لكل مرحلة خصوصياتها ، يمكن التغلب عليها ، عندما تدرك الحقائق والوقائع ، علينا ان نواجه معاناتنا بصبر ، سنتحرر من واقعنا في يوم ما ، وأكدر لك اذا تمسكنا بتحول الحقيقة ، ذلك له نتائج ايجابيه ، وينفذ الى عقول الناس بسرعة !!
اقترب مني أكثر ، بعد ان لفنا الصمت المطبق ، محاولاً خلق جواً ودياً ، بعد ان زم بابهام وسبابة يده ، شفتي السفى ، تبسم ضاحكاً وقال :
لا زلت تلتقي بها ؟
تجاهلت سؤاله وعدت الى حواري الساخن ، قلت :
- إني جاد فيما أقول من ان كلامك وهم لا يصدق ، نحن مجتمع تخدعه المظاهر ، مخدوعون في كل شيء ، نعتبر الحياة حلماً كاذباً تتوالى صوره ، وانت يا عيسى وانا وغيرنا بعض صوره !! ..
طيب ، اذا لم تصدقه عد الى التاريخ ، الا تعتبره حقيقة من حقائق الوجود ، الا يرشدك الى ما هي الحصيلة للتجارب الثورية في بلدان مختلفة من العالم ، كيف ان الفكر السياسي لها لم يتمكن من تطوير نفسه وتعميق علاقته بهذا التاريخ ، وبالتالي اندثرت ، لان معظم آراءها من قبيل تحقيق الرغبة ، وليس الحقيقة الصادقة فانتهت الى التلاشي ، في حين قول حكيم او عاقل في عصور ما قبل التاريخ ، كما هو الحال في بلاد الرافدين واليونان ، لا زال يتردد الى الان على السنة البشر ، لكونه يعتبر في وقته حقيقة ، اعتقد انه ليس لك شك في ذلك ، اذن فهو لا يزال خالداً ومؤثراً ، وما على صاحب الفكرة التي يريد ان يوصلها الى الاخرين كحقيقة واقعة ، عليه ان يتحمل نتائجها مهما كانت سلباً او ايجاباً ، يا صديقي انت لست ضائع ، كأنك خلقت وحدك ، في هذه الحياة .
سكت عن الكلام بعد ان اخذ منه الانفعال موضعاً لا يحسد عليه ، او هكذا ظهر فجأة ، اذ لا قبل لي بمواجهته مما حدا بي ان اقول له بهدوء :
- هذه تعبيرات بدقة رياضية ، لا اعلم انك "خوارزمي" هذا القرن ، او يمكن ان اصفك بالكائن الذي يعي الزمان وهو في الزمان ، ويصارع لتحقيق ذاته في زمن من ازمنة التاريخ الانساني ذات القوانين او الشروط في التكوين والتشكل والاستمرار ! قال :
يا صديقي العزيز ، عندما اطارحك مثل هذه الافكار ، أبغي من خلالها عدم القنوط اواليأس ، صرنا الضحية وهذه النتائج ، نهضة اية أمة ، تعني دخولها بعد مرحلة من الجمود ، في مرحلة تاريخية جديدة ذات ابعاد وخصائص تختلف عن سابقتها ، يمكن ان نسميها بالتصادمية .
قلت له تمهل وتأمل يا عيسى :
- أقول لك على نحو أكثر من الدقة وفي ضرب من الوضوح ، كاشفاً لك التعبئة السياسية في أيامنا هذه بعد كثير من الانعطافات لاساليب الغرب والغربنة ، فأشكل لك موضوعاً تحليل يخضع للقواعد المألوفة للبعض وغير المألوفة للبعض الاخر ، ان من تلك الاساليب ، انهم يعتبرون ان الاسلام لم يعط بديلاً للتحديث في حين ان هناك عدة بدائل للتحديث الذي لا يعني بالضرورة التحدث على النمط الغربي ، ثم ان الاسلام والحداثة لا يتعارضان أبداً !!!
دعنا من ذلك – قال برصانة – الا زلت تحبها ؟
تبسمت بعد ان عانقته محاولاً الاعتذار له عن انفعالي معه دون ان اراعي وجوده لاول مره معي بعد غياب طويل ، قلت له :
- تسألني عن الحب الذي كان !!
نعم وهو كذلك !! ... قلت :
- حبي لها الا سلسلة عواطف وميول متشابكة ذات أثر تراكمي ، تكمن جذورها في صدري ، تغلغلت بكل كياني ، بعد ان مهدت هي الطريق ، حيث جعلت بيننا أشياء كثيرة ، أكثر من أشيائي التي حلمت بها ، موقناً اني لا أكون واحداً من البؤساء او أرجو ان لا أكون ، فغدا أمر اعادة النظر الشاملة في مقاييسي شرطاً مسبقاً وجوهرياً ، لالتزامي الكامل ، بل ثقتي المطلقة أني احبها فعلاً وبرغبة ملحة ، هذا يعد بحد ذاته ذا أهمية عظمى ، وليس متعة لوساطة نحو غاية اريد لها ان تفرض نفسها لمعرفة صدق احساسي من عدمه ، الا ان تلك العواطف وذلك الحب بدا نسيجه يذوب عندما بدأت أشعر بانحسار عاطفتها ، خسرت بالحب مثلما يخسر الناس بالتجارة ، لا تعود بي الى ذكريات بعيدة ، لسنين خلت جراحها غائرة في اعماقي ، لم تندمل بعد ، أريد ان اكون انساناً قد تجاوز حزنه ، إستمرار الحزن سيضر بالتأكيد ، لذلك اقول لك "إحترس من الحب" .
ضحك ملء شدقيه ، لاحظت عليه امارات التفاؤل ، حدث نفسه ، قلت :
- بماذا تحدث نفسك ؟ قال :
لا شيء ، لا شيء .
شبكنا اصابع يدينا ، قلت له :
- تأمل يا عيسى ، انا عارف نتيجة التجربة ، اريدك ان تخوضها ، لأرى ماذا تفعل !!
قال وهو لا يقوى على منع نفسه من الضحك الطويل ، ناظراً نحوي نظر يريد من خلالها معرفة رد فعلي :
علينا جميعاً ان نحب ، لكي يخلدنا التاريخ ، فالتاريخ لا يخلد الا العشاق ، او ربما صار الحب علماً ، كالفلسفة وعلم النفس ، انا اؤمن ان الحب واحد ، وان الهوى حسيب الناس ويعمر الدنيا .
كانت الشمس قد غربت والتهم الليل النهار ، غمسنا أيدينا بالماء وغرف كل منا غرفة ، مسح بها وجهه ، وأبتل شفتيه ، مرددين بصوت واحد :
ستزهو يا دجلة الخير ، أيها النهر الخالد ، ستبقى شامخاً كنخيل بلادك ، وجودك دليل على أعظم حضارة عرفها تاريخ الانسانية ، انك اليوم سجين ، حريتك مقيدة ، وهي محنة كبيرة ، نحن شعب انصهر عشق وطنه كله في نفوسنا ، واستحال الى احساس عميق بخضوع الكون بأسره لنواميس حب ترابه الذي جرى تطعيمه على شجرة الحنين بعناق حميمي واحتفاء حقيقي بكل سنديانه متجذرة في ترابه الذي يضوع عطره في حدائق صدورنا .
التفت الى عيسى ، لم أجده بجانبي ، كان وسط تيار الماء ، التيار يجرفه نحو الاعماق ، كاد ان يغرق ، أجبرتني غرائزي كلها ان ارمي بنفسي عليه ، تعلقت بعنقه ، صرخت بأعلى صوتي ، لا تغرق ، لا تغرق ، لا تغرق .. نهضت مذعوراً في فراشي وانا اصرخ : لا تغرق ، لا تغرق ، لا تغرق .. حمدت الله على ان هذا اضغاث احلام ، وما انا بتأويل الاحلام من العالمين .
تناولت قدح الماء الذي بجانب سريري ، تنهدت طويلاً حاورت ذاتي ، قلت :
- لي أمنية في حياتي أريدها ان تتحقق ، ان أرى عيسى والعلمانية التي لا يمكن تفاديها ، لا سيما التي تعني التحديث والعلم والعقلانية ، ليكون المجتمع الجديد المتسامح الانساني ، مع الحفاظ على الاساس المقدس لبناء المجتمع ..
رحيم حمد علي
ميسان – 1/3/2010